فتحي بن الحاج يحيى
11 جانفي 2012
أخاف على المشاعر من فيض الكلام.
دار العام علينا فأعطانا ما أعطى. وللدّارجة أسرارها وشقاوتها كما للعربية بلاغتها ومعانيها.
في وقفة التأمّل على مسافة حَوْلٍ من اندلاع أحداث 14 جانفي تزدحم الصّور في الذهن تِباعا وتضارُبا، وتتوارد الخواطر جُملةً وتفصيلا حتى إنّك لتحتار في اختيار أفضلها تعبيرا وأكثرها دلالة، وقد يأتيك اللّفظ حاملا معه مَعْنَيَيْن مُتضاربين بحسَب انتمائه إلى قاموس العربية أو استقائه من دارجتنا التونسية كأن يدور علينا العام بالفصحى بما يفيد الزّمن في دورته، وأن يدور علينا بالعامية بما يفيد سقط على رؤوسنا.
لن أحسم بين هذا وذاك فلا شيء سار إلى منتهاه إلى حدّ اليوم، والأمر طبيعي بقياس الزّمن والمنطق وحركة التاريخ.
الشيء الثّابت إنّ التونسيين قد استعادوا اكتشاف كلمات نشيدهم الوطنيّ. لم أعترض تونسيا واحدا لم يقل هذا الكلام. فلا أروع من أن تُمسك المشاعر بالكلمات لتضفي عليها كثافة قادمة من خارج الكلمات رغم إنّ النّشيد قديم، مَجَّتْهُ الأنفسُ والتصق أداؤه، في أغلب الأحيان، بوصمة “الطّْحِين” (كلمة دارجة أخرى لو عُرّبت لفقدت تموّجاتها في النّفس) مثلها مثل كلمة “فلانٌ شُعْبَه”، لا إشارة إلى انتمائه إلى الحزب الحاكم فحسب، بل دلالة على عقلية وذهنية طبعت قطاعات واسعة من أهل البلد، وخوفي أن تحلّ محل الشعبة نهضةٌ تُبقي علينا في نفس السلّم الموسيقي، وداخل نفس الموازين التي استطابتها النّفوس وتعوّدت عليها الأذهان في إعادة جدلية الحاكم والمحكوم، والرعية والأمير.
وأحلى اللحظات أيضا يوم وقف التونسيون طوابيرَ مؤلّفة ليمارسوا حريتهم بوعي جديد، متعثّرِ الخطى أحيانا، ومتحمّسٍ أخرى، وواضح المعالم لدى البعض، ومبهم لدى آخرين. لكنّه انتخاب تمّ في ظروف ربّما هي أفضل ما يمكن أن تكون عليه قياسا بالأوضاع ونسبة لظروف البلد آنذاك.
مشهد آخر بثه التلفاز لحكومة تُسلّم المشعل إلى أخرى بأسلوب حضاري ومجلس يُنقل مباشرة على الهواء، تتضارب فيه الآراء ويتأسّس فيه شيء ستتذكّره الأجيال بقطع النّظر عن مآل الأحداث.
ثمّ، وخاصّة، مشهد شعب بأكمله يخرج لامتلاك فضاء عامّ كان يمشي فيه ظلاّ لنفسه بشعور الذلّ في نفسه، فينتفض فجأة لتتغيّر معطيات الدّنيا في لحظة واحدة ويُفتح مصير جديد بما فيه من توتّرات، وجنون، وطموحات، وغضب وفوضى، وخوف، … لكن فيه أيضا عزّة نفس جديدة، وأحلام كبيرة، ونسمات حرية غير مسبوقة… وذلك هو الأهمّ. أمّا ما تبقّى فهو الآتي :
عندما ألقي بنظرة سريعة أفقية على أحوال البلاد، ثمّ ألتفت إلى الثلاثي المرح لأرى كيف يتصرّف مع الأوضاع، تدهشني جرأة قياديه على الاستفراد بالرأي وقدرتهم على استلهام الثقة في النّفس من حيث لا أدري، وأحسدهم على تلك اللّمسات من اللامبالاة التي لا يقدر عليها سوى “عريانْ… في صُبعو خاتم” لأنّ هذا الأخير لا يهمّه “وين باش ترصّي” عملا بحكمة “بوزيد عريان بوزيد مغطّي”.
والحقيقة إنّ إشفاقي عليهم هو بقدر إعجابي الخفيّ بشجاعتهم على تحمّل سلطة في بلد انكسرت فيه فكرة السلطان… إلى حين على الأقلّ، في انتظار أن تتحوّل هذه الظّاهرة إلى ثقافة أو أن تعيد إنتاج نفسها بمعطيات جديدة-قديمة. فلا شيء ينبئ بهذا أو ذاك، وأشياء كثيرة تنبئ بهذا وذاك، فإمّا أن يكتسب الفرد كامل معانيه ليؤسّس لقعد اجتماعي جديد أو أن تنتصب الأمّة والجماعة حصارا من نوع آخر على الفرد.
يبدو لي أحيانا أمام تعطّل العقل في إدراك المعنى إنّهم يشتغلون بنوع من الميتافيزيقيا الدينية التي تحمل العبد على تحمّل أوزاره في اعتبارها محنة ربانية تزيده إيمانا لقوله تعالى“ولِنَبْلُوَّنَكُمْ حتى نعلمَ الجاهدين منكم والصّابرين..”. وربّما لأجل ذلك أعلن، صراحة، أحد أقطاب العلوم الصحيحة منهم بأنّ النّهضة حزب ربّانيّ دون أن يشعر بالحاجة إلى التوقّف على إيجاد المعادلة بين المدني نعتا والربّاني حالا. فلا المعادلة صحّت حسابيا ولا هي استقامت لغويا، وبقينا نحن على ضياعنا في فهم ما يجري. ثمّ يأتي وجه آخر من وجوهم حسبناه، إلى حدّ تلك الخطبة الشهيرة عن الإشارة الربانية والخلافة السادسة، بذرة عقل في عالم الغيبيات ليرتكب “سبق لسان” سمّاه فرويد “لاَبْسُوسْ lapsus” وعرَّفته الدّارجة التونسية بـ”يجي يقول صحّة يقول سدّاف” لأنّ قائلها يفكّر أصلا في الثانية وأراد تغطيتها بالأولى فكان سبق اللسان لينتصر الحقّ ويزهق الباطل ولتستعيد التراتبية أولوياتها.
وإلاّ كيف نفهم تهاليل أساريرهم. فالجبالي دوما مبتسم، وديلو ضاحك أبدا، والبحيري بين هذا وذاك يتراوح (وحده الغنّوشي مغشاش وإذا ضحك قطّب) والحال إنّ المصاب جللٌ في محنةِ حُكْمِ بلدٍ لا تدين لهم فيه نخبه المثقفة وجامعيوه، رجالا ونساء… والنساء أكثر، ولا سلطة لهم فيه على وسائط الإعلام بكلّ تنويعاتها تقريبا، ولا اتّفاق مع النقابة العمالية الأم وضراتّها الجديدة، ولا سيطرة على جهاز أمن منهوك متخوّف من يوم حساب قد يأتي قبل الآخرة، ولا تأثير يذكر على بعض الخارجين من رِحمهم والرّافضين لهم، دينا وتدينا، من سلفيين يجاهدون بالزلاليط في انتظار الأفضل أو بالموعظة الحسنة التي ترمي بك في جهنّم وبئس المصير إن لم تكن من الطائعين، وإلى غير ذلك من محامين وقضاة وصحفيين ومعتصمين ومعتصمات وغاضبين وغاضبات على امتداد جغرافيا الوطن.
يعني إنّ قوّة النّهضة هي في ربحها للانتخابات، جُمْلة، وفتحها على نفسها ألف جبهة، تفصيلا، وكلّ جبهة تخفي أكثر من ورطة :
1- ورطة مع قواعدها التي صبرت عقودا طويلة على الضيم واحتمت بالسريّة، أو المهجر، أو انبثّت عناصرها في المجتمع ليُنسوا البوليس في أسمائهم – وما نَسِيَهُم- و أُجبروا على أكثر من تنازل تحوّل اليوم إلى رصيد قهر وذنب وجب تصفيته بإعلاء كلمة الإسلام ونشر الدّعوة التي من أجلها عانوا. أحدهم هاجم بعض القياديين لإكثاره التأكيد على مدنية حزب النّهضة مسائلا إيّاه إن كان يعار من لفظ الإسلام ؟ أي إنّ عديد القواعد لا تتماهى في التصريحات الرسمية العلنية لقادتها ولا تجد نفسها في هذا الخطاب “المدني” الذي تحمله بعض رموز النّهضة ولا يتوافق دلاليا مع خطب الجوامع والهياكل القاعدية مما حدا بنفس القادة أحيانا أو بآخرين لا يظهرون كثيرا في وسائط الإعلام من أمثال شورو على توليد خطاب الأسلمة الأقرب إلى الأذهان والأشفى للانتظارات من الخطاب الموجّه إلى الخارج، محليا وعالميا. ربّما يكون هنا لفظ “الانفصام” مواتيا أكثر من لفظ “الازدواجية”؟
2- ورطة مع غير قواعدها من الذين حمّلوها أمل إعادة بناء سلم الأخلاقيات في المجتمع ووجدوا في خطاب الشقّ النيّر منها صدى لتمزّقهم بين “التفتّح والأصالة”، وبين رغبة العيش على ساعة الزّمن مع طمأنينة القلب في الانتماء إلى دين يُسْرٍ لا يحرّم الـ”قاطو” ليلة السنة المسيحية ولا يُحاسبك على عدد الرّكعات التي لم تركع أو يطارد ابنتك في الشّارع للباس لم يرده الرّسول لزوجاته وبناته في زمن لم يُستنبط فيه الدّجين بعدُ. وفي ذلك الوجه الآخر من الانفصام.
3- ورطة مع حليفها الأوّل المرزوقي الذي دخل قرطاج فاتحا عهد الرئاسة الشعبية، وقد آل على نفسه توسيع دائرة صلاحياته بما أحرج، في أكثر من مرّة، حكومة الثّورة التي تسعى أن لا تكون ثورية أكثر من اللّزوم لأسباب في الجغرافيا السياسية وأسباب أخرى في السياسة الدّاخلية وضغوطات وإلزامات الحكم. فإذا به يفتح عليها جبهة ليبيا وجبهة الجزائر في نفس اللّحظة، ويتّخذ قرارات في بيع أرزاق الرئاسة الممولة من المال العامّ دون استشارة أحد، ويرتجل خطبا تضع السّامع يعيش على أعصابه وهو في حالة انتظار زلّة جديدة أو فكرة يراوغ بها الحراسة اللصيقة المسلّطة عليه من قبل وزراء النّهضة وبعض مستشاريها. ففي كلّ مرّة يزور فيها بلدا شقيقا أو منطقة تونسية يعود بقفّة مشاكل والحال إنّ سمير ديلو تعب من إصلاح ما يفسده الغنوشي في كلّ مرّة وما أتاه الجبالي، وبن سالم وهلمّ جرّا زد على ذلك المرزوقي في انتظار البقية. بل إنّ هذا الأخير قد استبدّت به العاطفة والحماس إلى حدّ التحليق فيما وراء الحدود الشرقية لليبيا ليستقي منها شعار الإخوان المسلمين “الإسلام هو الحلّ” مزايدا على النّهضة ذاتها التي يسعى خطابها الرّسمى إلى الحفاظ على شعرة معاوية في محاولة لإصباغ طابع المدنية على نوازعها الدينية.
4- ورطة مع جهاز الأمن الذي اختفى في الأيّام الأولى ليعود حاملا شعارات الثورة وقد تعلّم للتوّ حكاية العمل النّقابي فدخله من أبوابه الخلفية عملا بقاعدة “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” وعرف كيف يقايض الأمن مقابل “عفا اللّه عما سلف” علاوة على تشعبات هذا الجهاز وعنكبوتيه وأسراره وخفاياه وتغلغله في المجتمع بما يجعل من العسير اقتلاع الطالح دون المساس بالصّالح. وربّما في تنقّل قادة النّهضة بأحزمة من حراستها الخاصّة ما يستحقّ أكثر من قراءة وهو ما ينشأ عنه خطر جديد في تكوّن ميليشيات لضرورات سدّ مناطق الفراغ بين النّهضة والأمن قبل أن تصبح أمرا واقعا إذا ما تبيّنت فاعليتها لتستخدم لاحقا، خارج القانون، في المواعيد الانتخابية وإرعاب المعارضين وغير ذلك من المنافع والمآثر في نظر أصحابها.
5- ورطة مع الحليف الثاني ورئيس المجلس النيابي وهي ورطة لم تُفصح بعد عن كلّ تجلياتها في انتظار بداية مناقشه أصول الدّستور المنتظر، فضلا عن صعوبة التعامل حاليا مع بعض أطرافه جرّاء التصدّع داخل هذا التكتّل.
6- ورطة مع عبد الفتّاح مورو كظاهرة فريدة إن صادمتَها أتعبتك، وإن حاذيتها أنهكتك، وإن استوعبتها عسُر هضمها لمؤهّلات عند الرّجل تحوّله شوكة في الحلق.
7- ورطة مع ليبيا، لا فقط كجارة لم تستتبّ بعد أوضاعها وما يترتّب عن ذلك من تلاعب بأعصاب حرس الحدود وسكان التّخوم ومن ورائهما معنويات البلد بأكمله، بل كاستثمار للتخفيف من البطالة، وسوق واعدة لإعمار الجار هناك وإنقاذ اقتصاد البلاد هنا، وهو ما يستوجب السّير على خيط رفيع يراعي مشاعر الليبيين ومطالبهم في استرداد رموز النظام العبثي السابق ليشفوا غليلهم مع المحافظة في نفس الوقت على مصداقية تونس في العالم واحترامها مبادئ ومواثيق المعاهدات الدولية…دون الحديث عن المصيبة الأخرى في توريط المرزوقي لتونس في وحدة (مرّة أخرى) مع ليبيا دون أن يستشير أحدا والحال إنّ نوابنا في المجلس التأسيسي يتناقشون عن تفاصيل القانون الدّاخلي وما حكم النائب الذي جاء دوره في أخذ الكلمة وقد خرج لقضاء حاجة بشرية أكيدة لا تنتظر، أفيسترجع حقّه في الكلام أم يكون الرّكب فاته ؟ ثمّ يأتي الغنّوشي، غير المسجّل في قائمة الحكومة، بتصريح يؤكّد ما قاله المرزوقي عملا بحكمة “إذا….. زيدها لَصّْ”.
8- ورطة مع الجارة الغربية الأخرى التي في نفسها ريبة من نهضتنا، وقد سبق أن “نَوَّضَتْ” عليها نهضتها ونوّضت هي عليها لينتهوا إلى ما لا يُحمد عقباه، فإذا برئيسنا المؤقّت يفتح علينا جبهة قد لا تكون مؤقتة بإثارته هذا الجرح الغائر في النّفوس الجزائرية بينما آخرون، أو هم نفسهم، يدعون بوتفليقة لحضور احتفالات عيد الميلاد الأوّل للثّورة. وعلى فكرة لم نعد نعرف من يستدعي من ؟
9- ورطة مع وسائل الإعلام التي رأى فيها رئيس النهضة فيما رأى دخانا أسودا يلوح في الأفق، ولا حاجة لأن يكون الواحد زرقاء اليمامة ليرى الحاضر والآتي من وراء هذه المعركة التي بدأت تلوح بشائرها في الاعتداءات الأخيرة التي تعرض لها عدد من الصحافين وما سبقها من وقائع مع جريدة المغرب وإذاعة الزيتونة وصفاقس والمنستير مرورا بـ”اللابسوس” الآخر لرئيس الحكومة في الحديث عن الإعلام الحكومي بدل العمومي، وقد لا يكون لَبْسُوسا لمجرّد اعتباره، بكلّ براءة، اللّفظ الأوّل مرادفا للثاني، ونهاية بالتعيينات الأخيرة على هامش وجود اللجنة الوطنية لإصلاح الإعلام ونقابة الصحافيين والرأي العامّ.
10- لخبطة في سياستنا الخارجية ودبلوماسيتنا الموقّرة حيث ينزل قائد حماس الصّامدة في مطار تونس قرطاج، ولا علم بمنظمة التحرير الفلسطينية بذلك، فإذا به في يثرب تستقبل نبيّها بأعلام سود ورايات خضر غاب عنها علم البلاد وارتفعت فيها بعض الأصوات ملوّحة بأنّ “قتل اليهود واجب” ثمّ نعلم من الأخ الفلسطيني بأنّ معركة فلسطين هي معركة الدين الحنيف ضدّ من عاداه وأنّنا، نحن التونسيون، “جنود اللّه في الأرض” قبل أن تصعد شابة فرنسية، بمناسبة خطابه الأخير بالقبّة، لتعلن إسلامها على الملأ بين يديه. والغنّوشي حاضر ولا ينبس ببنت شفة وهو يتجوّل خارج الشرعية وداخل الشّرع، فلا هو نائب مجلس ولا عضو حكومة ولا صفة أخرى له غير رئاسة حزب ككلّ الأحزاب حتى وإن كان حاكما. وإن ثمّة من لا يرى في الأمر مانعا فلا فائدة وقتها من مؤاخذة الحزب السابق على زواجه العرفي بمؤسسات الدّولة والحكومة. صحيح إنّ النّهضة أصدرت فيما بعد بيانا يتبرّأ من بعض المندسين في صفوفها، غير إنّ أصواتا صرّحت على الفايسبوك بأنّها من أبناء النّهضة. وبودّي أن أفهم الأمر حتّى لا أموت جاهلا.
11- ورطة مع المواطنين التونسيين من أصل يهودي ولم تمرّ بضعة أيّام على استقبال رئيس جاليتهم من قبل رئيس الدّولة ليعيد عليهم ما عاهدهم به رئيس النّهضة بلسانه من أمان وطمأنينة ومساواة تامّة بينهم وبين سائر المواطنين، والحال إنّه كان حاضرا في استقبال هنية ورأى ما رأى ولم نسمع منه نبسا ثمّ قضّى خمسة أيّام في كتابة بيان تبرّؤ في خمسة أسطر.
12- ورطة مع فرنسا ومن ورائها المجموعة الأوروبية كشريك أوّل في مبادلاتنا التجارية، فالغرب ينتظر إشارات على دخول تونس القرن الواحد والعشرين ميلادي فإذا بأهل الحلّ فيها يؤرّخون للزّمن بالتقويم الهجري وهو ما لا يتوافق دوما مع روزنامة الاستثمارات، ودفق الأنترنات، وبرامج سوق المال والبنوك والمؤسسات العالمية. وما لا يتوافق أيضا مع متطلبات مقاومة الإسلاموفوبيا المستفحلة في الرأي العامّ عندهم، ولا يسهّل كثيرا استثمار صورة تونس الجديدة وما ولدته من أحلام وانتظارات.
13- ورطة مع السعودية بعد ما أدلى به الغنوشي في أمريكا ونفاه في تونس عن بؤس الوهابية وحكم التاريخ بنهاية الممالك من فصيلة آل سعود والحال إنّ لها معها أكثر من ملفّ بداية من ملفّ استرجاع الرئيس والرئيسة الفارّين ونهاية بالخيوط الممدودة من هناك إلى حيث بعض سلفيينا هنا.
14- ورطة مع قفة المواطن التي كلّما خفّت موازينها ثقلت عواقبها والحال إنّها مثّلت الرمزية والأداة في الحملة الانتخابية حيث وعدت النّهضة بمستقبل زاهر لها مع صرف البعض منها حاضرا فتولّد عن ذلك ما تولّد من الأوهام والانتظارات بما يجعل النّهضة في أنظار الكثيرين مسؤولة عن ملئها بقدر ما قد تُتّهم بخفّة ميزانها والحال إنّ ميزانية الدّولة وثروات البلد على ما هي نعلم من فاقة وقلّة يد، والنهضة كانت تعلم ذلك قبل الانتخابات فعملت بمنطق “سلّكها اليوم ويا من عاش لغدوة” وها قد عاشت وعشنا، وهو ذا الغدُ أَتَى.
15- ورطة مع العاطلين عن العمل الذين تعاملت معهم النّهضة بنفس المنطق الآنف الذّكر حيث دقّقت حساباتها وجنّدت خبرائها في الاقتصاد والمال والتجارة والسوسيولوجيا والفيزياء والكيمياء لتعلن في حملتها الانتخابية عن تشغيل نصف المليون ونيف من العاطلين قبل أن تخصم الحكومة الجديدة الخمُس، وهي اليوم حائرة في النّيف، وتراهن على الأوضاع في ليبيا لتشغيل النّصف وعلى دولة قطر لتستثمر في البلاد بما يجعل هذه العملية الحسابية أسهل من العمليات المقرّرة في درس الحساب للسنوات الابتدائية الأولى إذ هي مجرّد جمع وطرح لا يحتاج إلى احتفاظ.
16- ورطة مع النخب الجامعية لأسباب كامنة سابقة زادتها استفحالا قضية النّقاب وجامعة سوسة ثمّ اعتصام منّوبة وتُوجت بتسمية وزير لم يكفه ما تنتظره من مواجهات مع الأحياء من أساتذة الجامعة فراح يخاصم الأموات في شخص الدّوعاجي رغم ما في اختيار الوزير لهذا الأديب من معان دالّة، أقلّها، نية مبيتة في تشغيل رحى الأخلاقيات والتطهير الذّهني في رأي إسلاميي النّهضة بداية من التراث الأدبي. ففي الدّوعاجي وشخصياته الكثير من الشخصية التونسية المستهدفة بالأساس من قبل التصوّرات النهضوية عن شخصية إسلامية يريدونها أن تحلّ محلّ الأولى. وستمثّل هذه المسألة إحدى أهمّ محاور المعركة : معركة الذّهنيات والتمثّلات والثّقافة والتعليم.
17- ورطة التأليف بين مناضلي الدّاخل الذين حملوا تنظيمهم في ظلّ بن علي وقضّوا السنين الطويلة بين سجون وتشريد، وبين مناضلي المهجر الذين احتضنتهم بلدان أوروبا العلمانية ليتعلّموا منها ما استطاعوا إليه سبيلا لكنّهم كانوا في قطيعة مع واقع البلاد وذهنيّات العباد وتفاصيل الحياة نسبة إلى الأوّلين علاوة ما تطرحه مسألة مقاييس الجدارة والأفضلية والأولوية والولاء في اقتناص المناصب بعد تبوئهم الحكم. فالحديث شائع عن تيارات أو شيع داخل هذه النّهضة بين متفتّحين هم إلى “العلمانية” أميل والتعامل مع مقتضيات العصر، وإن كانوا لا يستعملون هذا اللّفظ ويستعيضون عنه بالـ”مدنية”، ومحافظين هم إلى “أسلمة” المجتمع واعتماد المرجعية الدينية الصريحة في شؤون الدولة والمجتمع أقرب مثل رئيسهم السابق الصادق شورو الذي قضّى ثمانية عشر سنة سجنا قبل أن يُطلق سراحه ليعود إليه بعد أقلّ من شهر واحد لعامين آخرين وظلّ على مبادئه وآرائه أمام المحكمة، ولعلّه الشّخص الأكثر تعبيرا عن الرصيد الخامّ للوجه الدّيني لهذه الحركة حيث نرى في الرسالة السرية التي بعث بها من السجن سنة 2005 إلى راشد الغنوشي استخداما كليا لقاموس الدين والتديّن وغيابا تامّا لأيّ مصطلح يدخل في المعجم السياسي المدني من نوع “ديمقراطية” و”حرية” و”مواطنة” وغيرها. أكيد إنّه يجب استحضار الظروف التي كتبت فيها الرسالة وشورو في عامه الخامس عشر سجنا مع ما كلّ ما يحتاجه المرء من سند إيديولوجي أو روحاني لمقاومة طول المسافة وكبر المعاناة لكنّ البحث في أعماق الذّات يفصح عن التركيبة الذهنية للمرء ويكشف أسس تفكيره في الذّات والدّنيا ومعاني الحياة التي تظلّ جميعها شأنا فرديا حميميا يعنيه وحده لولم يكن هذا الشخص فاعلا سياسيا في حزب حاكم، ومن هنا أهمية هذه الرسالة :
شيخنا الكريم، الإخوة الأعزاء، السّلام عليكم ورحمة الّه وبركاته،
قرأت تحيتكم الأخيرة فكان لها أحسن الأثر وأطيبه في نفسي وكذلك في نفوس الإخوة. إنّي لا شكّ في أنّكم قد بذلتم وما زلتم تبذلون كلّ ما في وسعكم لرتق الفتق ونصر الحقّ. ولا أطلب منكم أكثر من ذلك، فلا يكلّف اللّه نفسا إلاّ وسعها.
وأعلم أنّكم تعملون في ظروف صعبة جدّا، نفسيا واجتماعيا وسياسيا وماديا، رغم أنّ من يراكم من بعيد يحسب أنّكم في نعيم كبير، إنّي لا أريد أن يذهب في خلدكم أنّكم مسؤولون وإن جزئيا عن طول محنتنا وشدّتها كما قد يظنّه بعضنا ربّما تحت وطأة المصيبة. إنّ الإيمان بقضاء اللّه وقدره يجعلنا نرى أنّ خروجنا من السّجن إنّما له أجل في كتاب عند اللّه تعالى الذّي قال : “لكلّ أجل كتاب” فإذا جاء هذا الأجل فلن نستأخر عنه ساعة وما لم تأت فلن نستقدم عنه ساعة أيضا .إنّما نحن مطالبون فقط بأن نبيّن للنّاس حقيقة قضيتنا ونرفع عنها كلّ لباس الباطل الذّي يريد أعداؤنا أن يُلبسوها إيّاه، وهذا ما أرى أنّكم غير مقصّرين فيه، ولهذا السّبب فإنّي لا أرى ان تجعلوا مسألة خروجنا من السّجن هي قضيتكم الأولى، فإنّ هذا الخروج سيأتي بإذن اللّه تعالى في الأجل الذّي كتبه اللّه تعالى كما قلت، وإنّما اجعلوا قضيتكم الأولى فتح قلوب النّاس لدين اللّه تعالى ولكتابه ولسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فتلك هي رسالتنا الكبرى التّي عليها نحيى وعليها نموت إن شاء اللّه، وكلّ ما يصيبنا في سبيلها إنّما هو ابتلاء من اللّه تعالى، يصيبنا به متى شاء ويرفعه عنّا متى شاء. إنّ اللّه تعالى قد ابتلى يوسف عليه السّلام بالسّجن بضع سنين ليبوّئه بعد ذلك مكانة يستطيع منها أن يبلغ رسالته للنّاس ويجمع حوله قومه الموحّدين ليجعل منهم حزبه الذّي يدعو إلى دين اللّه، فتلك هي حكمة سجننا وهجرتكم أيضا. إذ يريد اللّه تعالى أن يبوّئنا بعد ذلك مكانة في مجتمعنا وفي الدّولة نستطيع بها أن نبلغ رسالة الإسلام الخالدة. ولا أدلّ على هذه الحكمة من أنّ السّجن قد جعلنا أشدّ إيمانا بهذه الرّسالة، وأكثر وعيا بمتطلباتها وشروط حملها وتبليغها، وأكثر فهما لمختلف وجوهها العقدية والفكرية والعمليّة، وكلّ ذلك هو من الزاد الضروري للدّاعية. إنّي أصبحت على يقين بأنّ حركتنا المباركة التّي بذرتم بذورها الطّيبة في نفوس أمّتنا العزيزة ستتبوأ مكانتها اللاّئقة بها إن شاء اللّه تعالى في المجتمع وفي الدّولة رغم كيد الكائدين ومكر المنافقين. ولكن علينا أن نجمع شروطا سبعة للوصول إليها، هي التّي ذكرها اللّه تعالى في قوله “ياأيّها الذّين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللّه كثيرا لعلّكم تفلحون. وأطيعوا اللّه ورسوله ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنّ اللّه مع الصّابرين ولا تكونوا كالذّين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء النّاس ويصدّون عن سبيل اللّه واللّه بما يعملون محيط”، فهذه الشروط هي :
1- الثّبات
2- ذكر اللّه كثيرا
3- طاعة اللّه تعالى وتقواه
4- طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ومن بعده طاعة القائد
5- عدم التّنازع في الأمر
6- الصبر
7- إخلاص العمل للّه وتجنّب الرّياء والغرور.
أيّها الإخوة الأعزّاء إنّ أشدّ ما نحتاجه اليوم هو أن نكون صفّا واحدا كالبنيان المرصوص وراء قائدنا لنستطيع أن نواجه حملات الأعداء علينا ولندرأ كلّ ثغرة قد يتسلّل منها العدو إلينا ليشتّت صفوفنا… شيخنا الكريم، أيّها الإخوة الأعزّاء أهنّئكم بمؤتمركم الأخير جعله اللّه مباركا علينا جميعا، ولا أخاله إلاّ كذلك، فقد لاحت بشائر الفجر من ثنيته وقد استبشرت بنتائجه ولا سيما تبوّؤ المؤمنات مكانتهنّ في صفوفكم الأولى…
خالص التّحية إلى كلّ الإخوة والأحباب وإلى لقاء قريب تحت راية نصر عزيز وفتح مبين…
والسّلام – أخوكم الصادق شورو
18- وأخيرا، وليس آخرا، ورطة مع السّلفيين. فعندما ولدت الحركة الإسلامية في بدايات السبعينيات حملت معها معطى جديدا في المشهد السياسي الذي كان يحكمه الفكر البورقيبي وتجثم عليه سلطة بورقيبة مقابل يسار لا يكاد يتعدّى تأثيره حدود الجامعة والأوساط المثقفة والشباب إلى جانب بعض القوى القومية. ثمّ جاء الإسلاميون لتنشأ ميتافيزيقيا نضالية جديدة استدعت اللّه إلى عالم السياسة واستحضرت الدين في خطاب المعارضة وأصبحت مصطلحات السياسة المتداولة كلفظ “الحاكم” و”الفساد” “والشعب” و”الهوية” وغيرها مشحونة بدلالات دينية كأن ترى في فساد بورقيبة لا فقط استفراده بالحكم وتسلطيته بل، وخاصّة، زيغه عن الدين وخروجه عن جلدته وتغرّبه مستدلين في ذلك بجميع مظاهر العلمنة في سياسته وإجراءاته. ودخلت مصطلحات جديدة من قاموس الإسلام والتديّن إلى حيز الخطاب السياسي المدني مثل “إعادة تونس إلى حضيرتها الإسلامية” و”تجفيف منابع الإسلام” وغير ذلك من المفاهيم التي تُشعر التّونسي بأنّه نصف مسلم في أفضل الأحوال. هذا المعطى سيعيد إلى الأذهان معركة البورقيبية مع جامع الزّيتونة ويستثير في النّفوس أشياء عديدة ومبهمة كعودة الموروث في قوامة الرّجل على المرأة، وانتعاش الفحولة الذكورية كمدخل للكرامة المهدورة، ورجوع المكبوت في مستويات عدّة من الذّات الفردية والجماعية. هذه العوامل التي لا مجال لشرحها أكثر هنا وتظافرها مع أسباب خارجية، تهمّ العالم عامّة والعالم الإسلامي خاصّة وعلى رأسها قيام النظام الديني في إيران وغزوة الفضائيات، قد مهّدت للأرضية التي نبتت فيها جميع هذه النّزعات والظواهر والفرق التي نراها اليوم في تونس، بعضها تربّى في أحضان النّهضة وبعضها قام قياسا عليها وتجاوزا لها وهو ما يجعلها أمام قطاف روت بذراته بيدها فلما أينع لم تتعرّف على ثماره بل في بعض هذا النّتاج ما يهدّد أصلا كيانها وكيان البلد بأسره. وكأنّي بالنّهضة تعيد مع السّلفيين، بجميع تلويناتهم، حكاية “الإخوة الأعداء” المعروفة.
هذا ما أحصيناه من ورطات، ولكلّ ورطة طياتها، مع احتساب ما لم نستحضر.
والجبالي دوما مبتسم، وديلو ضاحك أبدا، والبحيري بين هذا وذاك يتراوح (وَحْدَهُ الغنّوشي مغشاش وإذا ضحك قطّب).
السؤال الذي يبقى مطروحا هو مدى قدرة حركة النّهضة على التّعامل مع هذه الصّعوبات والخروج من هذه المآزق والحال إنّها تبدو غير قادرة إلى حدّ اليوم، على الأقلّ، على السيطرة على أطراف داخلها بدأت تطفو إلى سطح الأحداث لتشوّش على صناعة السياسة التي يريدها قادة النّهضة لأنفسهم ومدى الانسجام بين هذه الأطراف في حدّ ذاتها لا سيما عندما نسمع إحدى قيادييها من المتنورين، العجمي الوريمي، يصرّح في الراديو بأنّ الاعتداء على الصحفي سفيان بن حميدة لم يكن من عناصر النّهضة بل هؤلاء هم الذين قاموا بحمايته (ضدّ من ؟) بينما يهاتفه سمير ديلو شخصيا ليعتذر له عمّا حدث ويشجب الاعتداء ؟ !
نحن اليوم أمام وضع مفارق بكلّ المعاني، فالعاقل لا يتمنّى في قرارة نفسه فشل النّهضة في إخراج البلاد من وضعها شبه الكارثي لأنّ السّقف عندما يسقط يأتي على الجميع ولا يترك حرثا ولا ورثا في بلد لا يحتمل زلزالا لأسباب في الجيولوجيا الشحيحة الموارد، وضيق في الجغرافيا وهشاشة في الاقتصاد وغيرها من الأسباب. في المقابل هناك تخوّف من نهضة تحسُب لكلّ خطوة ثوابها النّازل في صندوق ادّخارها الخاصّ وليس في رصيد الوطن كأن تستبدل تدريجيا كوادر الدّولة والإدارة بالمحسوبين عليها، وتغزو بالليل منظمات المجتمع المدني من اتحاد شغل، واتحاد المرأة الذي تمّ اقتحامه بعدث، وعمادة محامين، وقضاة، وحقوق إنسان، وبلديات وغيرها، بما قد ينبئ لاحقا بمشهد حكومة يدين لها قسم كبير من المجتمع المدني لتماثل في اللّون الواحد، ويبدأ وقتها الفتح المبين في برامج التعليم والإعلام والثقافة وكلّ ما يدخل في صياغة الرّأي العامّ وصناعة الذّهنيات الفردية والجماعية وشبح الخلط بين المؤمن والمواطن، وبين دولة القانون ودولة الحقّ الربّاني.
هذه المفارقة، وتلك هي السياسة، تطرح على الديمقراطيين جهدا أكبر للتعامل معها بذكاء ومسؤولية كأن ترى في عملية عزل أو استبعاد أحد الرّموز الأمنية المتهمة بالقتل موقفا إيجابيا بكلّ المعاني على أن تفصل بين رمزية الفعل في حدّ ذاته وخلفية استغلاله سياسيا لفائدة القائم به و لا أن تأخذ العملية بأكملها كمجرّد مناورة تهمّ النّهضة وحدها بل هي تعنيمسلمسمسمتتتعني مسألةتعني المواطنين الذي طالهم الرّصاص وتهمّ المجتمع بأسره في جعل الجميع سواسية أمام القانون مهما كثرت نياشينهم.
إنّ مصير البلاد، ونحن على مشارف عام من الثّورة، يظلّ، إلى حدّ بعيد، رهين هذه المخارج ورهين طرق التّعامل مع بقية الأطراف الأخرى من معارضة ومجتمع مدني بكلّ أطيافه وكذلك تعامل هذه الأطراف الأخيرة مع الأوضاع ومدى قدرتها على تكوين جسم متناسق قادر على لعب دور السلطة المضادّة دون البقاء على حافة الحدث، وهو أمر مازال بعيد المنال ويستحقّ بدوره الوقوف على محنة هذا الطّرف الآخر وورطاته وتعطّلاته.
www.elwazir.org/